البلقاء اليوم -
البلقاء اليوم -السلط
شاءت الأقدار أن يدخل مالك إبن السابعة من عمره ميدان العمل مبكراً، فهو الوحيد المؤتمن على مساعدة والده الخمسيني المُصاب ب( الشلل الرباعي)، وبات مجبراً على ممارسة دور الأب بحنكة وإقتدار؛ فالعمل في تجارة الملابس على ركن في شارع الأمير راشد في منطقة الهاشمي الشمالي، تتطلب مهارة ولباقة عالية لجذب الزبائن للشراء. ربما وجهُه البريء وهدوءه يشي، بأن الطفل يُحاول أن يُثبت لوالده قدرته على تحمل المسؤولية، والمهارة في فنون البيع، وسرعة الحركة، فهذا قدَرُه، أن يتعلم مهنة الكبار، وأن يتخطى طفولته بهذه الصورة. يقف الطفل الأنيق على فرش بضاعة تحتوي (جوارب) وبعض قطع الملابس الأخرى، بجانب والده، المُقعد على كرسي كهربائي متحرك، يعكس عجزه الكبير، عن الحركة بأطرافه الأربع؛ ولم يقف عند هذا الحد، فقد نال العجز من بصره ونطقه. يضطر البائع الصغير ووالده المقُعد، أن يمضيا وقتاً طويلاً في العمل خلال شهر رمضان تمتد حتى ساعات الفجر الأولى، فهذا حسب ما يقول الأب موسمهم، لكن ما يُقلق مالك الطفل، لملمة البضاعة، وحمل الفرش على رأسه الغض، لكنه يتغلب على المشكلة بمساعدة أحد المارة، ثم يجمع بعض القطع في حقيبة سوداء، ويضعها على كرسي والده، ويرضى بما قسم الله لهما من ربح. هذا النموذج من التجار العجزة، يرفض مد اليد والتسول، لإطعام عائلته، المكونة من ستة أفراد، فقد لجأ لمهنة، رغم صعوبتها، إلا أنها تدر عليه دخلاً يسد الرمق، لكن المشكلة حسب الأب في فصل الشتاء، فيقل البيع ويتدنى الربح. لا يتقاضى طلال نزال المقعد منذ طفولته، نتيجة خطأ طبي كما يقول؛ معونة وطنية، ويفتقر للمال الذي يحتاجه لجلسات العلاج الطبيعي، التي أوقفها منذ زمن، كما أن مصاريف الأسرة، ودراسة الأولاد، تتطلب نفقات كبيرة، لا يمكن توفيرها من البيع في الأيام العادية، غير أن الوضع يتحسن قليلاً في المواسم والأعياد ورمضان. هذا المشهد يتكرر كثيراً في شوارع عمان، فتجد الأطفال الصغار يحاولون مساعدة، والديهم وخاصة الذين يعانون من إعاقة ما، سواء كانت حركية، أو أي نوع من أنواع الإعاقة الأخرى (بصرية، سمعية، شلل..)، فالإطفال يحاولون إثبات وجودهم أمام والديهم الذين يعانون عجزاً ما، لكنهم يرفضون مد اليد، بلجوئهم للتجارة الحلال. ربما يستطيع جلال، أن يجني المال بسهولة، ومن ذات الموقع، وبدون جهد يُذكر، لكنه يرفض التسول، ويشعر بأنه قادر أن يكسب رزقه بكرامة وشرف، وهو ما يصنعه منذ سنوات طويلة، كما عرفه زبائنه. أما خوفه حين يشتد عليه الألم، وخاصة في الشتاء، فلا يمكنه جني قرشاً واحداً، رغم محاولاته أن يعود ببضعة دنانير، لشراء الطعام؛ يتمنى أن يُشمل بمظلة التأمين الصحي، وأن يحصل على مخصصات لأولاده من المعونة الوطنية. أجمل ما في حياته أسرته التي تحبه وتعتز به، فهو لم يُرد أن، يهز تلك الصورة الناصعة في أذهان فلذات أكباده،؛ فإبنه البكر مالك، لا يشعر بالتعب في عمله مع والده طيلة النهار، وحتى ساعات الفجر، بل يشعر بالسعادة، وعزة النفس بين أقرانه، كونه يمارس عملاً شريفاً، ليعين والده العاجز، فالكسب الحلال من جني يديه، وتوفيق الله، له نكهته ومذاقه. قد يكون لعمل الصغار محاذير، صحية ونفسية، لكن حالة أحمد قد تختلف، فهو دخل سوق العمل مبكراً، وفهم لعبة التجارة، وهو بهذا السن من عمره؛ كما أنه حاز ثقة الأب، فإعتمد عليه، فقد وجّهه بطريقة صحيحة، ووقف بجانبه، فكان خير معاون لأبيه. المهم أن أبا مالك، لم يندب حظه، ويجلس عاجزاً يتلقى الصدقات، بل مارس حياته الطبيعية، فقد تزوج وكون أسرة، وبصورة وأخرى، أنفق عليها بكده وجهده، لكن الأولاد شعروا بالمسؤولية، فحاولوا أن يساعدوا بقدر ما يستطيعون، فهم الأمن والأمان - بعد الله - لرعاية الأب ذو الإعاقة. وهو ما يشير إليه مختصون في الرعاية الإجتماعية، حيث يعتبرون أن زواج ذوي الإعاقة، فيه مصلحة مجتمعية، تعود على الوالدين ذوي الإعاقة أو أحدهما، وعلى المجتمع بشكل عام، إذ يتحمل الأولاد رعاية آبائهم بصورة عملية، وتفان وإخلاص، ويوفرون العبيء المالي والمعنوي على قطاعات الدولة المختلفة. سيبوح مالك بقصته بكامل تفاصيلها يوماً، وسيذكر للأجيال، أن الظروف دفعته أن يدخل سوق العمل، وهو بعمر الورود، لكنها خطوات واثقة على الطريق الصحيح، فبات مسؤولاً، وتقع على كاهله مهمات جسام رغم صغر سنه.