أحمد حسن الزعبي
انتبذت من وجعي مكاناً غربياً جلست أراقب العصافير التي تمشّط السهل أمام الحصادة وخلفها ومن على يمينها وشمالها خوفاً على "عشّ " بين حجرين وسنبتلين هنا، أو عشّ تكوّر بين العشب اليابس هناك...بين الدروب ثمة فراخ لا تطير ، وبين القلوب ثمّة فؤاد لا يطير أيضا...تعالي هنا زقزقي للريح بصوتي الجريح ..تعالي أحدّثك عن جبهة أبي السمراء ، عن خيطانه التي كان يقطعها قبل الموسم بشهرين، عن "شوالات الخيش" المسجاة في عرض العريشة...تعالي أحدّثك عن خابية الماء التي كان يبيت الفيء على بابها ... عن "هدأة البال" عن رمش أمي الذي لا يقل شقاراً عن بيادر الشمال ...لكن العصافير تبقى تجوب السماء مثل دورية عسكرية ، لا ترتاح ولا تغفو حتى يبتعد "كائن" الموت عن الصغار...
في الطريق الترابي ..شابان يغفوان على ظهر الجرّار ، قربهم بكم قديم ..مرفوع غطاؤه ليبرد قليلاً، وفتى يحمل "قربة" ماء مخيطة بالقماش المبلل، ينوي أن يناولها لسائق الماكينة عندما تلامس آليته الحد القريب ... في المدى يتضاءل حجم الحصادة قليلاً، وتصبح بؤبؤاً بين الجفنين... كلما غارت في الشرق أكثر، كلما قلقت أكثر...أضع يدي فوق عيني لأصنع غيمة من أمل...أبصر قليلاً.. أنها هناك ترمي كل حين "خيشة" من تبنٍ وتمضي...."الخِياش" البيض المرمية بين الدروب أسميتها خراف الحصاد..أنها تمضغ الحلم والسيقان والقشّ وتخبئه في جلدها المتخم بالصيف...خراف الحصاد.."تؤنس" السهل قليلاً إذا ما غادره تصفيق السنونو ، أو صمت نشيد القبّرات...
ألف حكمة كتبت أمامي في حوار الأرض والقمح يوم الحصاد .....في الحصاد ينحني منجل الماكينة "للقمح" وان قصُرَ ويترّفع عن الشوك وان طال..في الحصاد..توقن أنك تتاجر مع الله..فلا تتوقعّ ان يعاملك "ربّ التجار" معاملة صغار التجّار...في الحصاد...تكتشتف أن الموت منجلٌ...,وان الروح نسمة...و أن الآجال قضاء وقدر...فعليك ان ترضى بـ"القسمة"...
**
عند الغروب، عندما تعود الماكنة من أطراف الدروب...لتسكب لك قمحك من مزراب النهاية... ثم تغادر ويغادر خلفها أولادها الموسم، الجرار، وبكم "التبن"... عندها تشعر كم أنت وحيد من كل شيء الا من "قمحك"!!..
عند الغروب عندما تغادر الأقدام القليلة وجع المحصول..وتغادر الريح العجولة حناجر السهول...تعرف كم هو مضن... "حصاد الشوق"...