البلقاء اليوم -
البلقاء اليوم ---
- روى جلالة الملك عبدالله الثاني في كتابه فرصتنا الأخيرة عن ما يعرف بحوادث 'ايلول' التي شهدها الاردن بعد محاولة الفدائيين الفلسطينين السيطرة عليه بقيادة ياسر عرفات والمليشيات المسلحة . وتاليا نص ما كتب الملك عبدالله :- كان الوضع في الأردن في تلك الفترة شديد الكأبة مثبطاً للعزيمة ، ذلك أن ياسر عرفات ، الذي فتح له الأردن ذراعيه بعد حرب العام 1967 واتاح لمنظمة التحرير الفلسطينية الحركة بحرية ، لم يقابل هذه المعاملة الكريمة بمثلها. أخذت قواته تزعزع أركان الدولة باقامة الحواجز على الطرقات وجباية الضرائب وانتهاك القوانين والانظمة . كان العديد من أفراد الفصائل المقاتلة تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية يتصرفون غير آبهين بقانون أو بعقاب فاذا جاعوا اقتحموا أحد المنازل في غياب رب المنزل واجبروا زوجته على أن تعد لهم طعام الغذاء تحت تهديدها بالسلاح .كانوا يخطفون اشخاصاً ليطالبوا ذويهم لدفع فدية للافراج عنهم وكانوا يقتلون عشوائياً ويصادرون السيارات ويحتلون المنازل ويهاجمون الفنادق على أمل أن يخطفوا رهائن من الأجانب . كنت آنذاك في السادسة فقرر والداي ارسالي للخارج لتجنبي العنف المتزايد والفوضى التي كانت تعم الأردن . وبما أن والدي كان قد درس في ' هارو' كان ارسالي إلى انجلترا خياراً طبيعياً . لا أزال اتذكر وصولي في المساء إلى مدرسة ' سانت ادمند' ، البناء الريفي الواسع الارجاء القائم ضمن ساحة كبيرة . كان التوتر يشتد ويتزايد بين والدي والفدائيين وفيما رفع عرفات من وتيرة جهوده لانتزاع السيطرة على الأردن ، راح رجاله يركزون اهتمامهم على مليكه . في أيلول من العام 1970، وفيما كان والدي متجهاً إلى عمان يرافقه رجل الدولة خريج جامعة هارفرد ورئيس الديوان الملكي زيد الرفاعي والشريف ناصر بن جميل ، ذو الصدر العالي والجسم المليء ، الذي كان في تلك الفترة رئيس أركان الجيش الأردني، أوقف موكبه عند أحد التقاطعات متراس كان قد أقيم هناك . عندما خرج أحد رجاله لازالة المتراس فتح المقاتلون المختبئون وراء التلال من اسلحة مختلفة بما فيها رشاش ثقيل روسي الصنع من نوع 'دوشكا' . قُتل الجندي الذي كان يحاول ازالة المتراس وشاهد والدي زخات الرصاص تقترب منه منهمرة على الأرض من حوله كالبرد . أخذ الجميع مواقعهم وبدأوا يردون على مصادر النار . وكانت ردة فعل والدي الأولوية أن صرخ :' عيب عليهم ' قد تبدوا ردة فهل هذه غريبة بعض الشئ من شخص يتعرض للهجوم . ولكن والدي كان يؤمن بقوة بقيم الشرف والرجولة ولم يرى في مهاجميه سوى عصابة من الجبناء . رجاه زيد الرفاعي والشريف ناصر أن يحتمي في حفرة قريبة. وعندما رأى المهاجمون والدي يحاول أن يحتمي بالحفرة اداروا الرشاش باتجاهه بغية استهدافه . في تلك اللحظة رمى زيد الرفاعي وقائد الحرس الملكي نفسيهما نحوه لحمايته فاصطدم احدهما بالأخر ووقعا معا فوقه فشهر بظهره كاد ينكر تحت وزنيهما . رد والدي ومرافقوه المهاجمين وعادوا على سياراتهم وما أن ترك الموكب حتى لاحظ والدي الذي كان قد جلس في المقعد الأمامي أن قبعته العسكرية قد وقعت عن رأسه وسقطت على التراب . كان الغضب قد نال منه مناله بسبب تعرضه لهذا الكمين . لدرجة أنه عاد فخرج من السيارة والرصاص يتطاير في المكان والتقط قبعته ووضعه بهدوء على رأسه ثم عاد إلى السيارة وانطلق الموكب . وفيما كانوا عائدين إلى المنزل في الحمر إستدار والدي نحو زيد الرفاعي وقال له : ' في المرة التالية اتركوا لي الفدائيين أتدبر أمري معهم ، أنتما الإثنين اوقعتما بي من الضرر أكثر مما فعلوا هم ! ' ومنذ تلك الحادثة بقي يشكوا من أوجاع في ظهره . عند هذه النقطة ، وبعد سقوط وقف اطلاق النار مرتين ، بات واضحاً أن الاردن لم يعد قادراً على التعايش مع مقاتلي عرفات . في تلك المرحلة كان عديد العسكريين التابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية والفصائل التابعة لها مئة الف رجل من بينهم 25,000 مقاتل نظامي متفرغ وحوالي 75,000 من المليشيات المسلحة . وكانوا يزدادون جراء ة وتفلتاً . ففي السادس من أيلول / سبتمبر من العام 1970 خطفت 'الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ' 3 طائرات عالمية كانت قد أقلعت من فرانكفورت وزيوريخ وامستردام متجهة إلى نيويورك . حول الخاطفون اتجاه طائرتين منها إلى الأردن اجبروهما على الهبوط في مهبط دوسون ( قيعان خنا ) وهو مطار بعيد في منطقة الأزرق الصحراوية شمال شرق الأردن . فيما حولت وجهة الطائرة الثالة إلى القاهرة حيث عمد الخاطفون إلى تفجيرها . بعد مرور 3 ايام على هذه الحادثة خطفت طائرة مدنية أخرى إلى المهبط ذاته . طلب الفدائيون اطلاق سراح رفاق فلسطينيين لهم معتقلين في سجون اوروبية . وعندما رفض مطلبهم عمدوا في الثاني عشر من أيلول / سبتمبر وتحت أنظار وسائل الاعلام العالمية ، إلى تفجير الطائرات الثلاث بعد اطلاق سراح ركابها . بعدئذ بيومين دعت منظمة التحرير الفلسطينية إلى اقامة ' سلطة وطنية ' في الأردن . بالنسبة إلى والدي كانت هذه الدعوة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير . وبعد ذلك بثمانية ايام اصدر أوامره إلى الجيش للتحرك بمنتهى الشدة ضد الفدائيين في عمان والمدن الاردنية الأخرى من الخطأ اعتبار هذه المواجهة حرب أهلية بين الأردنيين والفلسطينيين.ذلك أن العديد من الاردنيين من أصل فلسطيني قاتلوا بشجاعة في صفوف الجيش كما أن بعض الأردنيين من الضفة الشرقية التحقوا بالفدائيين الفلسطينيين وقاتلوا ضد الجيش . قاد الشريف ناصر باعتباره رئيساً لأركان الجيش ، المعركة ضد الفدائيين . وكان الشريف ناصر رجلاً ذا بنية قوية ومحارباً شرساً يبدوا كمن اذا لكم الحصان رماه ميتاً إلى الأرض. وكانت احدى هوايته المفضلة أن يأخذ بيده الواحدة بصلة ويسحقها متنزعاً لبها لكي يضيفه غلى طعام العشاء اذا كان ينقصه شيئاً من النكهة . كان القتال بين القوات الأردنية والفدائيين على قدر كبير من الشراسة ولم يمض وقت طويل حتى وجدنا اننا لسنا في مواجهة عدو داخلي فقط ، ذلك ان سوريا هاجمت في شتاء 1970 شمال الأردن بواسطة ثلاثة الوية مدرعة ولواء كوماندوز ولواء من المقاتلين الفلسطينيين ، وذلك في محاولة لمساعدة ياسر عرفات ومع أن التفوق بالعديد كان كبيراً لغير مصلحتنا ، فقد قاتل جنود اللواء الأربعيين الأردنيون ، الذين كانوا مسؤولين عن حماية الحدود ، قتالاً مريراً وحافظوا على مواقعهم . اما الغزو السوري فقد هدد بأن يجعل من نزاع داخلي ازمة دولية . ولكن في الثالث والعشرين من أيلول / سبتمبر تم رد القوات السورية على اعقابها .استطعنا الدفاع عن حدودنا الشمالية ، لكن القتال بيننا وبين الفدائيين بقي يتأجج . في النهاية استطاعت القوات المسلحة الأردنية ، بمهنيتها العالية وتدريبها الجيد واعتادها ، ان تحسم القتال لمصلحتها . استمر القتال مع الفدائيين متقطعاً حتى صيف العام 1971 . لكن الأردن انتصر واستعاد جيشه سيطرة الدولة فكانت الغلبة للشرعية