الأحد ,22 ديسمبر, 2024 م
الرئيسية فكر وأدب وثقافة «اللعنة عليّ»: هكذا تحدث طمليه

«اللعنة عليّ»: هكذا تحدث طمليه

1204

البلقاء اليوم - «اللعنة عليّ»: هكذا تحدث طمليه
جابر جابر الأحد 24 شباط 2019
البلقاء اليوم ---السلط

«السيد عبد الله مصطفى طمليه، ولي أمر الطالب محمد عبد الله، نحيطكم علمًا بأن مجلس عمداء الجامعة قرر في جلسته رقم (..) فصل ابنكم محمد فصلًا نهائيًا، وذلك لامتناعه المدبّر عن حضور المحاضرات وتحريضه الآخرين على ذلك، وقيامه بأنشطة تتنافى مع أنظمة الجامعة».[1]

في أكثر من نصٍ له، استعار محمد طمليه فكرة كتبها دوستويفسكي تقول إنه لا يليق برجل يحترم نفسه أن يعيش أكثر من خمسين عامًا.[2] لذا، في الثالث عشر من تشرين الأول عام 2008، توفي محمد طمليه، وله من العمر واحد وخمسون عامًا، ملتزمًا بالفكرة التي لطالما أشار إليها. لكن، بفضل جهد حقيقي بذلته عائلته ومحبّوه، لم يوقف الموت مسيرة محمد طمليه بشكل نهائي، إذ صدرت له مجموعة من الكتب بعد وفاته. هل كان سيوافق على إصدارها لو كان حيًا؟ لا ندري، لكن بغض النظر عن موافقته، فإن هذه الكتب،[3] قد أمدت، هي وكتبه القديمة، قرّاء طمليه، والمهتمين بدراسة إرثه وتجربته بمادة غزيرة، يمكن الاعتماد عليها لاحقًا، في تحليل نصوصه، وفي كتابة جزء من سيرته، كما يحاول هذا المقال أن يفعل.

في كل عام تقريبًا من الأعوام العشرة التي تلت وفاة محمد طمليه، أقيم له حفل تأبين أو أكثر، في عمان وإربد وأحيانًا في القرية التي ولد فيها، أبو ترابة، الواقعة ضمن حدود محافظة الكرك. وفي كل تلك التأبينات، جرى الحديث بمنتهى الحب عن طمليه، وعن أهمية تجربته، وعن الإبداع العصي على التكرار في النصوص التي تركها لنا. وقيل الكثير حول مدرسة الأدب الساخر التي صُنف ضمنها والتي يمكن لنا حتى اليوم أن نرى آثارها فيمن تلوه من الكتاب.

واحدة من أبرز الصور الشائعة عن محمد طمليه هي أن كان فوضويًا جدًا، أو لا مباليًا. حتى أن كاتبًا مثل مؤنس الرزّاز عندما طُلب منه تقديم قراءة في عدد من قصص طمليه، في أمسية أقيمت لهذا الغرض عام 1988، قال: «شككتُ في إمكانية حضور محمد إلى مؤسسة شومان في الوقت المحدد فأنا أعرف أن محمد مضاد للانضباط بطبيعته»[4]. إذن، وسم محمد طمليه بأنه فوضوي، أو بحسب تعبير الرزاز مضاد للانضباط، ليس جديدًا أبدًا.

لكن ما الذي أوحى للناس بأن طمليه شخص فوضوي، لا يمكن التعويل عليه في القضايا الجادة؟

أعتقد أن الإجابة تكمن في مجموعة عوامل منها: سلوكه في حياته العامة والشخصية، والذي أوحى للناس بأنه شخصية خارجة من قصصه، أو من قصص ألبير كامو أو إدغار آلان بو. إضافة إلى كتاباته ونصوصه التي يكرر فيها عبارات مثل: «أفكر في حالي: نسيتُ أن يكون لي بيت، ونسيت أن أتزوج، ونسيت أن أتوظف»[5]. عامل آخر يضاف إلى هذه الأسباب هو رغبة البعض في تجنّب وجع الرأس، عن طريق الابتعاد عن الحديث عن النشاط السياسي له.

هذه العوامل أسهمت في تهميش جانب رئيس في تجربة طمليه، وهو الجانب النضالي الملتزم، الذي بدأ معه بمسيرته في الجامعة الأردنية التي أوردت أعلاه نص فصله منها، ومرورًا بعمله وكتابته في الصحف اليومية والأسبوعية، وأخيرًا بعلاقته برابطة الكتاب الأردنيين.

لذا، أحاول في هذا المقال رسم صورة لمحمد طمليه، مستندًا لمقابلات مع مقرّبين منه من أصدقائه وأقاربه، ولنصوص كتبت عنه، وللنصوص التي كتبها، والتي يلاحظ الدارس لها، أن تجاربه ومشاهداته كانت المادة التي ينهل منها في كتاباته.




















في وادي الحدادة

«من المؤكد أن أسوأ إجراء يقوم به شخص ما هو أن يولد فقيرًا».[6]

كانت سنوات طفولة طمليه عاملًا حاسمًا في تشكيل هويته وشخصه، ويمكن من خلال الاطلاع على هذه البدايات قراءة النهايات، مرورًا بالعلاقات التي خاضها والخيارات التي انحاز إليها.

في قرية أبو ترابة، في الجنوب الأردني، ولد محمد طمليه عام 1957 لعائلة كبيرة العدد، مكوّنة من أب وأم واثني عشر مولودًا، خسروا واحدًا ساعة الولادة، ونجا ليعرف الفقر والترحال سبعة أبناء وأربع بنات. كان ترتيب محمد فيهم الثالث بعد خولة ومروان.

كان طمليه كثير التنقل، بين الأماكن وبين الوظائف. وبحسب شقيقه أحمد، فقد «ورث [هذه الصفة] من أبوي. كان ما بطيق يقعد في مكان واحد مدة طويلة». تنقل الوالد بالعائلة إلى أماكن كثيرة. فبعد تهجير الأب من فلسطين عام 1948، تنقل بين أبو ترابة في الكرك، حيث ولد محمد، والدمام في السعودية، وقرية مليح في مادبا، حيث عاش محمد سنواته الأولى، ومن ثم القويسمة في عمّان، وأخيرًا وادي الحدادة، الذي كان مسرحًا للكثير من نصوص طمليه، فوصف مشاهد الفقر الذي عانى منه المكان.

أمّا الأعمال التي تنقّل بينها والد محمد، عبد الله مصطفى طمليه، فقد كانت كثيرة. فقد عمل مدرّسًا، وإمامًا لمسجد، وفي مرحلة متقدّمة من حياته افتتح مكتبًا تجاريًا للاستيراد والتصدير في وسط البلد في عمّان،لتنتهي حياته خلال رحلة قام بها إلى بغداد لتصدير البندورة.

في المدرسة، تعرّض طمليه للتنكيل. لذا، عندما عبّر عن تلك المرحلة قال: «لم نكبر ولكننا نجونا»، وعن الوضع في المدارس: «كنتُ ذات يوم تلميذًا في الابتدائي، كنت واحدًا من قطيع بائس يذهب كل صباح إلى المدرسة على مضض، ولمجرد أن يتعرّض هناك لعمليات تنكيل يمارسها معلمون حاقدون للغاية: كان الجميع كذلك، فالأب متجهم، والأم تشتم بوقاحة متناهية، والشارع مريب، وطاقم العائلة نام من دون عشاء: لقد اكتشفنا «الطبيخ» في وقت متأخر نوعًا ما».

ينقل يوسف حمدان، في «كتابه أقحوان على ضفاف النهر»، عن طمليه قوله: «كنت في مطلع الستينات طفلًا (..) وتزعم أمّي أنني كنت طفلًا ولا كل الاطفال ذكيًا مشاغبًا وفي منتهى النغاشة، (..) وأن أعراض الكتابة ظهرت علي قبل الحصبة وقبل أبو دغيم وقبل الكسور التي لحقت بعظمي جراء عشقي للتسكع على الأسوار العالية والحواف المخيفة»؟ وفي فيلم «بعيدًا من هنا»، والذي أخرجته ساندرا ماضي عن محمد طمليه خلال حياته، تقول والدة طمليه، وكأنها تؤكد الاقتباس السابق: «[محمد] اتسمّى وهو ببطني، وقالولي هاظ راح يطلع إشي، وأنا حامل فيه. كان لما ييجي يرميلي الشنطة من فوق السور، أقله يمه تعال ادرس، يقلّي اللي حكاه الأستاذ هيوتو هين. أقله وينهن؟ يقلّي في عقلي».

وإن كانت العائلة قد عانت من أجل توفير قوت يومها خلال سنوات دراسة طمليه في المدرسة، فإنها ستعاني بشكل مضاعف لتوفير تلك اللقمة بعد وفاة معيل الأسرة الوحيد، والد محمد، في بغداد، ولمّا يبلغ طمليه الثامنة عشر من عمره بعد.

يروي طمليه في أكثر من نص قصة إخبارهم بوفاة والدهم، فيقول إن رجلًا عراقيًا، قد جاء بيت العائلة، ورمى في وجه مستقبله جاكيت جلد، وقال: «مات البارحة في بغداد»، ثم غادر دون أن نعرف من هو الذي مات. ولكن أمّي قالت: «هذا جاكيت أبيكم».[7]


والدة طمليه ومختار حارته في وادي الحدادة. من أرشيف صور العائلة.

بوفاة معيل الأسرة الوحيد، صارت الأسرة في مواجهة أسئلة ملحّة، أسئلة إن لم يُجب عليها سريعًا، فالجوع الحقيقي مصير اثني عشر فمًا. ورغم أن الكثير من الأسر تلجأ عادة في مثل هذه الأوضاع لإخراج الأبناء الأكبر من المدرسة وإرسالهم للشوارع بحثًا عن عمل ما، إلّا أن أم محمد قد اختارت طريقًا آخر. يقول أحمد طمليه: «أمّي في الوضع الصعب اللي هي شافته ما كان أمامها غير تشتغل، فاشتغلت آذنة في مدارس وكالة الغوث حتى تصرف على 11 فم». أمّا مروان (الأخ الأكبر) ومحمد، فقد أصرت الأم على أن يتابعا حياتهما، وبالتحديد أن يدرسا ويحصلا على شهادة ما. كانت الأم تفكر في المستقبل، كما يقول أحمد: «كانت رؤية إمي إنه ما بدها إياهم يشتغلوا بياعين يجيبوا ليرتين في اليوم، بدها إياهم يدرسوا ويصيروا إشي. أمي كانت نظرتها على ما يلي الدراسة، لإنه هذول الاثنين وراهم تسعة أفواه».

أنهى محمد امتحان الثانوية العامّة خلال العزاء وما تلاه، وحصل على معدّل 79.9% بحسب شقيقه أحمد. وبعد النجاح في التوجيهي بفترة، «أعطتني أمّي (..) حقيبة، ومبلغًا صغيرًا من المال، وقالت لي: اذهب إلى الجامعة المستنصرية في بغداد».[8] وبذا، بدأت حياة محمد طمليه الجامعية.

على نهر دجلة، وقفت وبكيت

«قال لي جدّي، وكان مقرفصًا تحت الدالية: «لا تذهب إلى شارع أبو نواس، فثمة هناك مظاهر لا ترضي الله» لقد دلّني جدي من حيث لا يدري على المكان الذي يجب أن أرتاده دائمًا».[9]

عاش طمليه في العراق عامًا ونصف، تقريبًا، طالبًا في تخصص الترجمة في الجامعة المستنصرية في بغداد، وقد تركت هذه التجربة آثارها فيه طويلًا. فعلى المستوى الفكري، استفاد طمليه من هذه التجربة من خلال تعرّفه على الأفكار المتصارعة في العالم العربي وقتها، التي كانت أوضح ما تكون في العراق، إذ كان العراق في تلك الفترة يزخر بالنقاشات والصراعات السياسية. وهناك، بحسب صديق طمليه خالد مساعدة، والذي سيزامله في الجامعة الأردنية لاحقًا، سيتعرّف طمليه على هذه التيارات السياسية المختلفة ويشهد نقاشاته ومعاركها، وسيتعرّف إلى الشيوعية التي كانت توشك حينها على خسارة معركتها مع حزب البعث.

في العراق كذلك، بحسب أحمد طمليه، سيتحوّل طمليه إلى قارئ نهم. يقول خالد مساعدة: «وفرة الكتب ومجانيتها وأعدادها وتنويعاتها [التي] لا حصر لها أتاحت له هذه الفرصة».

أما ثقافيًا، فسيعلق حب بدر شاكر السياب في قلب طمليه، وسيصبح كاتبه المفضل، هو وعبد الرحمن منيف من وقتها. كما سيكون مغنيه المفضل هو سعدون جابر أو ياس خضر، أو ربما كلاهما.

يقول أحمد عن أسباب اختيار أمه لبغداد لدراسة ابنها: «عمته كانت عايشة هناك، وقبر الوالد هناك، ويمكن لإنه الدراسة فيها مجانية». ورغم هذا، لم يستطع طمليه البقاء في المستنصرية طويلًا، ولا إنهاء دراسته، فيقول: «ووجدتني بعد رحلة مضنية، في بغداد. وجدتني، ولأول مرة في حياتي في مدينة لا وجود فيها لوادي الحدادة، ولا لشارع الشابسوغ، ولا لفتيات المدارس ذوات المراييل الخضراء، ولا لعبارة علي الطلاق التي تتردد كثيرًا في بيت الجيران. والأهم من ذلك كله أن بغداد تخلو من أمي». هذا الحنين، وعدم القدرة على احتمال الغربة، أجبرا طمليه على العودة إلى منزل عائلته، خالي الوفاض من الشهادة، لكن برأس مختلفة عن الرأس التي ذهب بها إلى العراق أول مرّة.




















«مشاغبون» في الجامعة الأردنية

«أنا لم أكمل أي دراسة جامعية، فقد أعاقتني الرهافة بمعنى الحنين إلى بلدي عن المواظبة على الدراسة في الجامعة المستنصرية في بغداد، فيما أعاقتني السياسة عن إكمال الدراسة في الجامعة الأردنية».[10]

بعد العودة إلى عمان، سيسجّل محمد في الجامعة الأردنية، طالبًا في تخصص اللغة العربية، وفي الجامعة الأردنية ستصقل شخصيته وسيتعرّض للأشياء الثلاثة التي ستظل معه باقي حياته: سيحب، وسيناضل، وسيكتب.

في إحدى قصصه، يصف طمليه الوضع الذي يعيشه الطلاب الفقراء في جامعة كالجامعة الأردنية، حيث الفوارق الطبقية بارزة بشكل فاضح. «لقد وضعته الجامعة في موقع طبقي مغناج، فلا هو هنا ولا هو هناك، ولا تجده في مكان آخر».[11] وفي كتاب «أربع شفاه ولسان واحد» يصف إجراءات الذهاب للجامعة: «كنت أصحو باكرًا، أغسل شعري بالماء الساخن، وأرتدي ملابسي (ما غيرها) التي غسلتها الوالدة، وكوتها شقيقتي المبهورة بي، ثم ألمّع حذائي بخرقة، وأتطلع في المرآة، فأركن إلى أنني غدوت شخصًا بالغ الأناقة (…) مؤهلًا لإبهار الزميلات. أخرج مملوءًا بالنشوة، أحاذر في الزقاق أن يرتطم بي طفل متسخ يجري صوب الدكان، أحاذر أن ينقذف علي طبيخ بايت من طنجرة لربة بيت نشيطة. ويتفاقم اعتدادي بنفسي حين تمر بي كوكبة من بنات الحي الذاهبات إلى المدرسة اللواتي يؤمنّ، كما قالت شقيقتي، بأنني أكثر الرجال أناقة ووسامة».[12]

لكن صاحبنا يصل الجامعة، فيرى أترابه ينزلون من سيارات حديثة، يرتدون ثيابًا مستوردة، ويتحدثون إلى فتيات يخاف هو الحديث إليهنّ. فما تكون ردّة فعله؟ الشعور بالضآلة.

يقول شقيقه أحمد: «الغريب إنه محمد، وبدل ما يتقرب من الناس اللي قريبين من وضعه الاجتماعي، كان دايمًا عينه على الأغنياء، ويستدرج الفتيات الغنيات بشكل غريب إلى غرفته الحقيرة»[13].

كانت الجامعة تذكيرًا يوميًا لطمليه بفقره، وبالمكان الذي يجيء منه. فهل كانت هذه المشاعر عاملًا في انضمامه للحزب الشيوعي؟ وهل كانت سببًا رئيسًا في رغبته في تغيير العالم؟ ربما.



طمليه في شبابه. من أرشيف صور العائلة.

الطريق إلى أحداث 1979

إن كان طمليه قد صار قارئًا نهمًا في بغداد، فإن هذا الهوس بالقراءة قد تواصل خلال السنوات الجامعية، حتى أن جمال مساعدة يقول إن شقيقه وطمليه قد استوليا على المكتبة التي كان قد تعب في جمعها من بلدان عربية مختلفة، ونقلاها إلى الغرفة التي كانا يستأجرانها ويعيشان فيها، في وادي الحدادة.

تعرف خالد مساعدة، الذي كان وشقيقه جمال زميلين ورفيقين لطمليه، على الأخير عن طريق شقيقته التي كانت هي الأخرى طالبة في الجامعة الأردنية. الانطباع الأول الذي يذكره مساعدة عن طمليه هو أن الأخير كان وسيمًا، وكان منظره مريحًا، لكن حاجزًا ينشأ بينك وبينه بمجرّد تكلمه، «بسبب اللغة، لغته حادة، قاسية ومستفزّة. فإما بدك ترد على الاستفزاز باستفزاز، أو إنك تتراجع».[14] رغم هذا، نشأت علاقة صداقة طويلة الأمد بين الاثنين.

لم أعرف كيف صار طمليه شيوعيًا، ولا عرف بالضبط الأشخاص الذين قابلتهم، لكن ما أكده لي الشقيقان مساعدة أنه صار شيوعيًا في الجامعة.

انتظم طمليه في الحزب الشيوعي الأردني، إلّا أن هذا الانتظام في الحزب لم يغيّر من شخصية طمليه، إذ وصفته قيادة الحزب و«الشلة» التي كان يصادقها من الشيوعيين الرفاق، والتي كانت تضم خالد مساعدة، وناهض حتّر، وآخرين، بالمشاغبين. وخلال الأحداث التالية، سيدخل الشبان في صدام مع قيادة الحزب، التي كانوا يخشون أن تصير «مادة داجنة» في تعاملها مع الدولة، بحسب تعبير خالد مساعدة.

كانت أحداث الجامعة الأردنية عام 1979 حدثًا فارقًا، لا في حياة طمليه ورفاقه فقط، ولكن في حياة الحركة الطلابية الأردنية ككل. لفهم محورية هذه الأحداث، يجب المرور على المشهد العام في الجامعة أولًا. فعام 1977، تأسس الاتحاد الوطني لطلبة الأردن، وهو كيان قائم على اتحاد التيار الطلابي للحزب الشيوعي الأردني واتحاد التيار الطلابي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وضم الاتحاد كذلك عددًا من الطلبة المستقلين. وفي أول انتخابات تحصل في الجامعة الأردنية، بعد حلّ إدارة الجامعة للاتحاد السابق قبلها بعامين، حصل الاتحاد الوطني لطلبة الأردن على 17 مقعدًا من أصل 21 متاحة.[15]

في نهاية 1978، شنّت الأجهزة الأمنية حملة على نشطاء الجامعة، وتحديدًا نشطاء الاتحاد. فقرر الحزب أن يختفي الشباب لبعض الوقت، وبالفعل: «اصطحبني الرفيق خالد مساعدة إلى قريته الزمال في لواء الكورة. أخذنا معنا معلبات وغيارات داخلية وعددًا من الكتب والأشرطة، (…) قرأنا الكثير من الكتب، والأغلب أن التجربة أعطتنا قناعة إضافية بأن الفقراء سيحكمون العالم في النهاية».[16] يقول خالد عن تلك التجربة إن الكتب التي أخذها هو كانت لدوستويفسكي، أمّا الكتب التي اختارها طمليه فكانت لأنطون تشيخوف، «وبالضرورة بدك تاخذلك كم كتاب للينين، صحيح ما قرينا فيهم، كان التركيز ع التاريخ والأدب، وأخذنا مجلدين أو ثلاث من [كتاب] الأغاني، في هذيك الفترة كان محمد مبلش انغماسه بالأدب»[17].

بحسب خالد، كان محمد قد بدأ بكتابة الأدب، كان وقتها يكتب القصة القصيرة، وكذلك الشعر العامي. وقد كان هذا بفعل التأثر بتجربة الشعر العراقي، وخاصة بالسيّاب، كما تأثر محمد بتيسير السبول، الذي يصفه خالد بأنه كان أيقونة لليسار. تأثُر طمليه بالسبول تمكن ملاحظته عند العودة لقراءة النص الروائي الوحيد الذي خلفه السبول: «أنت منذ اليوم»، وتشابه عباراتها القصيرة الحادّة مع العبارات التي سيخطّها طمليه بعد السبول بسنوات.

«إحنا مش صهيونية»

كان الوضع قابلًا ومرشّحًا للانفجار في الجامعة الأردنية قبل الحدث بزمن، إذ كان الشارع الطلابي، وكذلك الشارع خارج الجامعة، غاضبًا جدًا، بسبب زيارة السادات للقدس عام 1977، التي يقول الكاتب محمد عمر،[18] الذي عاصر تلك الأحداث وعاشها، إنها كانت صادمة للناس ربما أكثر من هزيمة حزيران 1967.

لعب أعضاء الاتحاد الوطني لطلبة الأردن دورًا مهمًّا في معارضة توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين «إسرائيل» ومصر، وفي إحياء ذكرى يوم الأرض بعدها بأيام. إذ شهدت الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك يوم توقيع الاتفاقية، 26 آذار 1979، مظاهرات ضخمة.[19] وفي 31 آذار 1979، نظم الاتحاد في الجامعة معرضًا ليوم الأرض، شمل لوحات فنية وتراثية. لكن جهات يقول من قابلتهم أنها محسوبة على الدولة خرّبت المعرض وطردت الناس منه. لتبدأ المظاهرات في اليوم التالي، بعد أن قامت الحركات الناشطة داخل الجامعة، والتي كان بينها الاتحاد،[20] والكادر اللينيني، والجبهة الشعبية، وطلاب محسوبون على حركة فتح، وطلبة مستقلون، بالدعوة والحشد لمظاهرة كبيرة في اليوم التالي[21].

وبالفعل، شهدت الجامعة مظاهرة كبيرة في الأول من نيسان، كان من بين من يقود الهتاف فيها طمليه وناهض حتّر[22].


طمليه في أيامه الأخيرة، برفقة ناهض حتر. من أرشيف صور العائلة.

في اليوم التالي، أي في الثاني من نيسان، منع الأمنُ دخول الطلاب الذين لا يحملون هوية من دخول الجامعة، وهو أمر لم يسبق له الحدوث. تسلّل العديد من الطلبة الذين لم يسمح لهم بالدخول، وسار الطلبة داخل الجامعة في مظاهرة باتجاه بوابات الجامعة، فيما أغلق الطلبة خارج البوّابات شارع الجامعة، فلاحقهم الأمن وبدأ، بحسب خالد مساعدة، بضربهم.

اعتقل الأمن يومها 131 طالبًا، بحسب مساعدة، كان من بينهم هو ومحمد طمليه. في البداية، أُخذ المعتقلون إلى العبدلي، وبعدها نقلوا إلى مركز تدريب الضبّاط في منطقة خو. «غدّونا»، وفي نهاية اليوم خرج رئيس الوزراء مضر بدران على التلفزيون الرسمي وصرّح أنه تم القبض على مجموعات مرتبطة بالصهيونية،[23] وحذّر من مغبة الانجرار خلفها. بعد كلمة بدران وُضع المعتقلون في حافلات، وأُعيدوا إلى وسط عمّان[24]. وخوفًا من إعادة اعتقالهم، خبأ الحزب طمليه وخالد في بيت في منطقة النزهة.

يقول طمليه إنه ورفاقه، بعد سماعهم تصريح بدران: «ضحكنا كثيرًا، بل إن هذا التصريح المبتكر قد زادنا إصرارًا على تحقيق مطالبنا: اتحاد للطلبة، إلغاء رفع الرسوم الجامعية، وكف أيدي الجهات الأمنية عن الطلبة».[25][26]

في اليوم التالي، استمرت المظاهرات. ويومها، ردًّا على تصريحات بدران، هتف حتّر:

اسمع يا بدران اسمع
إحنا مش صهيونية
إحنا شباب التلاحم
سلطية ويافاوية.[27]

اعتقل طمليه وحتّر في 5 نيسان، ولاحقًا اعتقل مساعدة، فيما وصلت المظاهرات لنهايتها في 15 نيسان.

بقي المعتقلون في السجن حتى 17 تموز، أي أنهم سجنوا ما يزيد عن ثلاثة أشهر. يصف خالد مساعدة لحظات ما قبل الإفراج عنهم: «قبل الإفراج عنّا، جمعونا في قاعة، وحكولنا عن اللي صار، ووصلولنا شعور «وإن عدتم عدنا»[28]. بعدين طلعونا».

خرجوا، يقول مساعدة، من السجن ركضًا، «بلاش يبطلوا»، وذهبوا إلى حانة في منطقة الشميساني، تدعى «الهورس شو»، وشربوا البيرة، قبل أن يعودوا إلى بيوتهم.

على إثر تلك المظاهرات، فُصل 20 طالبًا،[29] من بينهم سعود قبيلات وناهض حتر وخالد مساعدة ومحمد طمليه، وستة أساتذة من العاملين في الجامعة، من بينهم الكاتب وليد سيف.[30]




















الانكسار

«كنا حزبًا حقيقيًا مرهوب الجانب، وتخشاه الحكومة والعلم عند الله».[31]

خرج بعض الطلّاب من السجن بقرار سياسي، بحسب خالد مساعدة، وخرج آخرون إثر اعترافهم بانتمائهم للحزب الشيوعي الأردني، الذي كان محظورًا وقتها بنصّ القانون. وبحسب جمال مساعدة، فقد قدّم طمليه شيئًا أشبه بالتعهد بعدم العودة للقيام بعمل سياسي تحت مظلّة الحزب الشيوعي الأردني، وبذا، أفرج عنه من دون أن يقدّم للمحاكمة.

هذا الاعتراف بالانتماء للحزب الشيوعي كان يعد وقتها سقوطًا، إذ أنه يكسر رابطة السرية التي يعمل وفقًا لها الحزب، وهو الأمر الذي سيترك أثره على طمليه، ربما لبقية حياته.

يقول خالد مساعدة، في سياق حديثه عن اعتراف طمليه: «الضغط اللي صار، على محمد تحديدًا مزعج. وخضع خلال الاعتقال لابتزاز نفسي شديد».

كتب محمد طمليه عن ذلك في مجموعته القصصية الأولى «جولة العرق» التي صدرت عام 1980، في قصة بعنوان «الأصوات»، يحكي فيها قصة الشاب محمود، ويبدأها بالقول: «لقد أهانوك وضربوك ضربًا موجعًا، ثم ألقوا بك إلى الشارع كحذاء مثقوب، وليس بمقدورك إلّا أن تظل في مستنقع تتجمع فيه القاذورات ونفايات العالم، أولئك الذين سقطوا قبلك والذين يسقطون.

في مساحة بحجم البصقة أشهرت اسمك، وتبرأت من مبادئك، وخذلت كل الذين يحبونك (..) تمرّغ الآن في وحلك، فإنك الطرف الخاسر (..) لقد أصبحت جزءًا من عالم ينتهي، وفقدت الحق في أن تكون سمادًا لعالم يجيء»[32].

يظن جمال مساعدة أن محمد كان يعني نفسه عندما كتب هذه القصة. هل كان يعتذر لرفاقه، وللعالم الذي حلم طويلًا بقدومه؟

«كنا مؤمنين إيمان مطلق بالتغيير، بإنه راح نغيّر الأردن والعالم ونحرر فلسطين». هذه كانت إجابة خالد مساعدة، والذي سجن مع طمليه عندما سألته عمّا كانوا يسعون لتحقيقه. أمّا طمليه، فأوضح في النص الذي اقتبسته قبل قليل السبب: «فقدت الحق في أن تكون سمادًا لعالم يجيء».

كان الشباب مؤمنين تمامًا بأن العالم بصورته الحالية لا يصلح للعيش، وأن هذا الظلم الذي خبروه جيدًا لا بد أن يقتلع من الأرض اقتلاعًا، ولذا كان الانضمام إلى تلك التيارات السياسية التي أخذت على عاتقها تغيير العالم، ولو عنى هذا تحمّلها الكثير في الطريق.

إذا عرفنا القضية أو القضايا التي كانوا يناضلون لأجلها، عرفنا معنى السقوط الذي لا بد أن طمليه أحسّه حينما اعترف. يقول محمد عمر عن الحصار الاجتماعي والسياسي الذي يتعرّض له من يقوم بالاستنكار أو بالاعتراف: «هلأ إذا اعترفت أو استنكرت، كان في آلية دارجة عند كل الناس، مين ما كنت تكون، كان يتم نبذه، فبالتالي هاد النبذ بالنسبة لحدا سياسي، تقريبًا حكم بالإعدام، [فلان] ضل مدمن لليوم كنتيجة للاستنكار والنبذ».[33] ويروي من قابلتهم قصصًا عن أشخاص استنكروا أو اعترفوا، وبعد خروجهم من السجن حاولوا الانتحار، أو تركوا البلد إلى غير رجعة.

وعن سبب هذه القسوة في التعامل يقول سعود قبيلات، عضو الحزب الشيوعي وقتها، والذي كان قياديًا في الحراك الطلابي عن الشيوعيين في أحداث الجامعة الأردنية عام 1979، من دون أن يدافع عن هذه السياسة: «وقتها كان في قسوة شديدة. هاي القسوة كان يفرضها الوضع، العمل السري والقمع. القمع بولّد قسوة عند الطرف المقابل. بكون بده يدافع عن حاله، كان عالم إجرامي»[34].

جمّدت عضويته، فُصِل، ترك الحزب، كل هذه الكلمات استخدمت ممن قابلتهم لوصف علاقة محمد طمليه، وغيره، بالحزب الشيوعي بعد الاعتراف. ما أعرفه بوضوح هو أن العلاقة بين طمليه والحزب، بل بين طمليه والعمل السياسي الجماهيري، قد اختلفت جدًا، وستستمر العلاقة بينه وبين الحزب بالتردي حتى يكون عداء بعض الشيوعيين لطمليه، خاصة من الطلاب الجدد، ونظرتهم له على أنه متساقط،[35] سببًا من بين عدة أسباب، في اقتراب طمليه من الجبهة الديمقراطية في السنوات التالية.


من أرشيف صور العائلة.

الجامعة مجدّدًا، والانكسار مجدّدًا

وكلت نقابة المحامين الأردنيين محاميًا للدفاع عن الطلبة المفصولين، وحكمت محكمة العدل العليا بعدها بأشهر لصالح الطلبة، ملغيةً قرار الجامعة التي اكتفت عندها بفصل الطلاب فصلًا جزئيًا. فيما حكم على سعود قبيلات، ممثل الشيوعيين، بالسجن خمس سنوات.[36]

عام 1980، عاد طمليه والشقيقان مساعدة للجامعة. يقول خالد إنه وطمليه حاولا أكثر من مرّة العودة للعمل على خلايا الحزب، وعلى تنظيم العمل الطلابي. صحيحٌ أن طمليه كان مكسورًا وقتها بفعل الاعتراف والشعور بالهزيمة، إلّا أنه كان يعمل بفعل تحميس الآخرين له.

في حزيران 1982، شن العدو الصهيوني هجومًا على الثورة الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، واجتاح لبنان وصولًا للعاصمة بيروت. حينها كان السؤال الذي طرحه طمليه والآخرون على أنفسهم: «شو قاعدين بنسوي هون؟». كان الخيار الأول لجمال وطمليه هو أن يذهبا بشكل شخصي إلى بيروت وينضما للثورة، رغم أنه لم يسبق لأي منهما حمل السلاح. وبعد البحث عن الكيفية الأمثل للذهاب إلى لبنان، وجدا أن مكتب منطمة التحرير الفلسطينية في جبل الحسين في عمّان يساعد الشبان الراغبين بالتطوع على الذهاب للبنان، وبالفعل توجها لمقرّها، فوجدا مئات الشباب الراغب بالتطوع. ساعدتهما المنظمة على أن يجددا جوازي سفرهما في وقت قياسي، وخرجا في أحد الحافلات المتوجهة للبنان. لكن عند الحدود الأردنية-السورية، أوقفت السلطات الأردنية الحافلة، وأنزلوا منها أربعة شبان كان من بينهم طمليه وجمال، ولم يسمحوا لهم بالمرور.

هذه الحادثة، وقبلها الفشل في عمل شيء في الجامعة، كل هذا «فاقم الإحساس بالهزيمة وبفقدان الجامعة والمكانة اللي كانت إلنا فيها».[37] فزاد ابتعاد طمليه عن العمل السياسي، وتوجه أكثر نحو الأدب.

بعد كل هذه الخيبات، واصل طمليه ورفاقه حياتهم الجامعية، لكنهم، في آخر عامين جامعيين، أي في العامين 1983 و1984، توقفوا عن الانتظام في المحاضرات، وحتّى عن تسجيل المواد. وكانت حياتهم الجامعية، بحسب جمال مساعدة، مقتصرة على الوصول إلى الجامعة، والحصول بطريقة ما على ثمن القهوة، ومن ثم الذهاب للمكتبة للقراءة؛ قراءة في الماركسية، وفي الأدب الروسي والفرنسي، وإبحار في الشعر العربي، وخاصة الجاهلي، وتنابز بالألقاب، فهذا الشنفرى (وهو الاسم الذي سيطلق على طمليه) وذاك تأبّط شرًا.

والمنطق وراء عدم الشعور بالحاجة للحصول على شهادة جامعية يفسره خالد مساعدة بالاستعانة بمقولة يرى أنها كانت تعبّر عما كانوا يفكرون فيه وقتها، وهي: «لا أرضى أن يعلمني من هو أغبى منّي». استمر هذا الانقطاع عن الدخول إلى المحاضرات ثلاثة فصول، قرّر طمليه بعدها أنه اكتفى من الجامعة. لذا، أخبر والدته أنه تخرّج، فصدّقته، وأقامت بسبب تخرجه المزعوم حفلة حضرها الأصدقاء الذين شاركوا طمليه «الكذبة البيضاء».

في السنوات الأخيرة من حياته الجامعية، عمل طمليه، كما يقول شقيقه أحمد، محرّرًا في دار الجليل للنشر ومن ثم في دار الكرمل. وقد ساعده هذا على الاستقلال عن أهله، فانتقل من بيت العائلة، وهو ما أثار حفيظة والدته التي كانت تأمل أن يساعدها ابنها في تدبير شؤون البيت المادية، بعد سنوات من كدّها؛ الكد الذي عبّر عنه طمليه قائلًا: «كانت تعمل سكرتيرة في بيوت الأغنياء، تخرج صباحًا، وتعود مهدودة المغرب، وهذا منطقي طالما أن عملها يشمل المطبخ والحديقة والسجاد وزجاج النوافذ وكل ما تأمر به السيدة».[38]




















رواية لم تُكتب؛ رواية كُتبت

بين 1977 و1984، كتب محمد طمليه الأعمال القصصية الأربعة المنشورة له، وهي «جولة العرق»، و«الخيبة»، و«ملاحظات حول قضية أساسية»، و«المتحمسون الأوغاد». وبحسب شقيقه أحمد، لم يعترف محمد من هذه الأعمال إلّا بـ«المتحمسون الأوغاد».

لقيت الأعمال القصصية الأولى التي نشرها طمليه ترحيبًا إيجابيًا من النقاد، لكن هذا الترحيب أخاف طمليه، و«جعلتني أدوس على الفرامل، وأقف في محاولة للبحث عن موطئ قلم، أين أنا، وما الذي يجب أن أكتبه». وعن سبب الترحيب بهذه النصوص يقول: «كتبتُ شيئًا تافهًا عن الواقع الاجتماعي المعاش، لقد كنت آنذاك شيوعيًا، وكان يهمني بحكم انتمائي وثقافتي إبراز المفارقات الطبقية، حتى وإن كان أسلوب المعالجة سليمًا، كان السادة النقاد في تلك الفترة مفتونين بهذا الهراء. وهذا ما يبرر باعتقادي الاستقبال الإيجابي الذي حظيت به ترهاتي الأولى».[39]

بعد خروجه من الحزب، قرأ طمليه «الكثير من الكتب التي يخشاها الشيوعيون»،[40] ومن بين تلك الكتب كتابات بيكيت ويونسكو وآداموف. فكتب متأثرًا بهؤلاء «السفلة»، كما يصفهم، مجموعته الأخيرة التي ستظل معه حتى وفاته.

هل يعني هذا أن «المتحمسون الأوغاد» هي آخر ما كتب طمليه من الأدب؟

لا. فقد حضر الأدب، برأيي، بشكل كبير في النصوص التي سيكتبها لاحقًا خلال رحلته في الصحافة الأردنية، وهذا الحضور، إضافة إلى الحدّة التي نقلها محمد من لسانه إلى الورق، جعل كثيرًا من المقالات التي كتبها في الصحف تحفًا أدبية، تصلح للقراءة خارج السياق الزمني الذي كتبت فيه.




مقالات بخط يد طمليه. من أرشيف العائلة.

خلال رحلة إعداد هذا المقال، سمعت وقرأت أن طمليه عمل على نص مسرحي، قرأ جزءًا منه في واحدة من الأمسيات التي قرأ فيها، لكنه لم يتمّه. كما كتب كلمات أغنية لحنها أحد أشقائه دون أن تنشر.

أمّا الرواية التي فكّر بها طويلًا، منذ أيام الجامعة، والتي كان يؤمن أنها ستضعه بين كتاب الرواية عالميًا في الصف الأول، والتي سيُكثِر من الحديث عنها عقب إصابته بالسرطان، فللأسف لم يكتبها.

ولهذا، وربما محاولة منّي في مواساة نفسي، ظللت أفكر دومًا أن طمليه قد كتب نصّه الروائي العظيم. هذا النص ليس في السرداب غائبًا، ولا هو ملقىً في نصوص طمليه التي تنتظر النشر، هو نص بين أيدينا جميعًا، وكل ما يحتاجه منّا هو أن نعيد قراءته، حتى تكون بين أيدينا، رواية مميزة ومختلفة لدرجة أننا نقرأها مرّة تلو أخرى دون أن نعلم أنها رواية.

الرواية التي أفكر فيها هي سيرة حياة محمد طمليه، التي كتبها على صفحات الجرائد، وفي كتبه، وفي أعماله القصصية، إذا ما استثنينا منها المقالات التي تتحدث في الشأن السياسي اليومي.





عدد من كتب طمليه. من أرشيف صور العائلة.

إليها بطبيعة الحال

«أنا شخصيًا أكتب لسلمى التي يسألني الناس عنها».[41]

الحديث عن أدب طمليه يقودنا للتعريج على علاقاته العاطفية، خاصة وأنها كانت حاضرة جدًا في نصوصه الصحفية والأدبية.

بدأت علاقات طمليه النسائية مذ كان مراهقًا، فيقول: «أول قبلة في حياتي. أذكرها جيدًا، ولقد تمّت مع قريبة لي في مثل عمري، بسرعة، وفي زقاق بعد الغروب مباشرة، لم تكن شفتاي قد تدربتا آنذاك على القيام بمثل هذا النشاط، ولكنهما التحقتا فيما بعد بأكاديميات متخصصة».[42] وبحسب من قابلتهم، فيبدو أن حياة محمد، منذ شب، لم تخل يومًا من فتاة/فتيات ما، أو من السعي نحو امرأة في البال.

وربما ما من امرأة في البال أهم من «سلمى»، وهي المرأة التي تردد ذكرها في نصوصه كثيرًا. وفي سلمى رأيان، أميل للأول منهما، وهو أن سلمى فتاة عرفها طمليه في الجامعة، ومنذ ذلك اليوم، وحتى 13 تشرين الأول 2008، لم تفارق قلب محمد يومًا. صحيحٌ أن العلاقة دخلت في مد وجزر، وصحيح أنه في فترات من حياته عرف أكثر من فتاة في نفس الوقت، وربما خان «سلمته» التي أحب، لكن سلمى كانت الفرد الذي يكتب له دومًا. هي التي كتب لها: «إليها بطبيعة الحال»، ولها «أنا والسرطان وهواك». لكن هذه السلمى بقيت هي الواحدة التي أحب، وهي التي أوشك على الزواج منها.

يقول خالد مساعدة: محمد كان لعوب صحيح، لكنه عندما كان يحب كان ينغمس في الحب، وانطرح الحكي عن الزواج في نهاية مرحلة الثمانينات.
جابر: ليش ما اتزوج؟
خالد: ما زبطت معه.
جابر: ليش؟
خالد: هي ما كانت ميالة لفكرة الزواج في تلك الفترة، وهو دخل في جو العبث.

أمّا الرأي الثاني، فيقول إنه كانت لطمليه في كل وقت سلمى، وسلمى هي مجموع كل تلك الحبيبات، وسلمى لا أحد. وهذا الرأي يقوى على تفسير تعدد العلاقات التي دخلها طمليه، وكثرة النساء اللواتي يعتقدن أنه إنما كان يكتب لهن، وأنهن هن سلمى، ما غيرها.

رغم أن سلمى هي من رفضت فكرة الزواج، على الأقل في رواية خالد مساعدة، إلّا أن طمليه، عبّر مرارًا في نصوصه عن موقف رافض للزواج. ويعود هذا الموقف في رأيي إلى أن طمليه كان مغرمًا بالرحلة، بالسعي نحو امرأة ما في البال، يقول أحمد طمليه عن شقيقه: «أفضل النساء [بالنسبة لمحمد] هي المرأة التي يلهث وراءها»، ويلهث فعل في مكانه تمامًا، ما كان يطلبه طمليه من المرأة التي سيحب هو أن تظل بعيدة بقدر ما تستطيع، مستحيلة، صعبة المنال، أن تضع له في الطريق ألغامًا وتنانين.

قد لا يكون هذا موقفًا من الزواج، بل موقفًا من الرتابة. فلو كان لي أن أصف طمليه في جملة لقلت إنه العدوّ الأول للرتابة في عالمنا. هو دون كيشوت عصرنا الراكب حصانه، والحامل قلمه رمحًا يرفعه في وجه الرتابة؛ في وجه الجمود القاتل الذي يصيب المرء بعد عمر معيّن، فلا يعود فيه الجديد مغريًا. كانت هذه مشكلة طمليه مع «أبو العبد، وأم العبد»، ومع الزواج، ومع الوظيفة المكتبية اليومية. لذا، ما فتأ ينتقل من مكان إلى مكان؛ في البيوت، والصحف، وربما في العلاقات أيضًا.

في اعتقادي، كانت كل الأفعال التي تدل على الاستقرار موضع ازدراء عند طمليه. حالة الارتماء التي أصابتنا جميعًا، والرغبة في التمطي، والتثاؤب، والنوم، كما أهل الكهف، كانت ترعب طمليه. وهذا المصير الذي كان يراه أمام عينيه إن هو تزوّج، لا النسيان، هو ما حال بينه وبين الزواج.

العداء للرتابة والسكون صاحَبَهما بحث محموم عن حرارة ما وسط القدر الهائل من البرود الذي تزخر به الحياة الدنيا. وهو ما دفعه لأن يقول لحبيبته: «ليتهم يضبطوني معك في ظروف تجلب الشبهة»، طلبًا للحرارة والانفعال والاندفاع وسط كل هذا البرود القاتل. وقال في موضع آخر: «ها أنذا أقولها صراحة، سوف لا يعرف المرء معنى الحياة إلّا إذا واظب على التردي، وحرص على البقاء في أماكن تجعل دق عنقه أمرًا ممكنًا». مجددًا، لهذه الأسباب، ربما، كان السعي نحو المحبوبة، نحو امرأة في البال، هو الغاية الأصلية.



من أرشيف صور العائلة.

عن حليمة

«كنّا صغارًا، ومات أبي، فعملت أمّي آذنة مدرسة، أنا لا أخجل من ذلك، بل أشعر بامتنان، فقد أصرّت على تعليمنا جميعًا، وأذكر أنها كانت تضع رسومي الجامعية في حشوة وسادتي. وها قد ماتت، وأنا حزين كما لم أحزن في يوم من الأيّام».[43]

من بين العلاقات المعقّدة التي عرفها محمد طمليه في حياته، كانت علاقته بوالدته الأكثر تعقيدًا، وهو تعقيد لم يحلّ حتّى بموتها. وقد تسبب له هذا التعقيد بشعور عارم بالذنب رافقه طيلة حياته. صحيح أن العلاقة مع الأم لم تكن السبب الوحيد للحياة تحت وقع هذا الشعور، لكنها كانت سببًا أساسيًا له.

في فيلم ساندرا ماضي، والذي أعد في سنوات متأخرة من حياة طمليه، يمكن للمشاهد بسهولة أن يرى كم تشعر الأم بالفخر بابنها، لكن الحال هذه لم تكن هكذا دائمًا. يقول أحمد طمليه: «يُعتبر محمد، بمفاهيم الأم البسيطة، عاق». هذا العقوق كان تحديدًا في السنوات التي كانت العائلة تعاني فيها من فقر مدقع، وحينها، وبدلًا من أن يحمل مع أمه كتفًا، كما تفترض كل الأمهات، ذهبت بطمليه «السياسة والجامعة على حساب أشياء في منتهى البساطة في بيت أمي مثل الخبز ولقمة العيش». ومع أول راتب تحصّل عليه، ذهب محمد واستأجر شقّة ليعيش فيها مستقلًا.

ربما يرجع هذا التوتر في علاقة طمليه ووالدته وشعوره بالذنب إلى سنوات الطفولة. يروي طمليه في كتاب «أربع شفاه ولسان واحد» قصة حصلت في طفولته، وفيها دخل للصف في بداية السنة معلّم جديد، كان «طويل القامة، قويًا، وهناك شرر يتطاير من عينيه»، طلب هذا المعلم من كل طالب في الصف أن يقف ويجيب على ثلاثة أسئلة: الاسم كاملًا، البلد الأصلي، واسم الأم. وبالنسبة لأولئك المراهقين، كان اسم الأم يعتبر عارًا من الممكن أن يلاحق الشخص إلى الأبد. بدأ الصبية بالإجابة، وكلّ يتأتئ عند الوصول إلى إجابة السؤال الأخير، خاصة وأن باقي الطلبة كانوا يضحكون على الأسماء التي كانت لأمهات زملائهم. في النهاية «جاء دوري، من السخف أن أعترف بالحقيقة في هذا الجو الصاخب، مع قناعتي أن اسم أمي معتدل: حليمة، بقيت ساكنًا إلى أن كرّر المعلم الطلب بجلافة متناهية، فوجدتني أقول: سوسن، وندمت، وما زلت نادمًا».

وفي السنوات اللاحقة، ستظل العلاقة مع الأم متوتّرة إلى أن توفيت، بحسب ما يقوله أحمد طمليه. بل إن التوتر امتد ليشمل كذلك العائلة، فيلازم طمليه شعور بالتقصير، شعور بالانتماء لا يمكن التخلص منه، شعور بالحنين الدائم، شعور بضرورة الالتزام بواجبات العائلة وحاجاتها. لكن في المقابل صاحبه شعور بضرورة الابتعاد عن هذا المكان، بل والابتعاد عن الأجواء العائلية، ربما بسبب ما تعنيه له من استقرار، وبالتالي رتابة وجمود وملل. يقول عن أسباب تركه لبيت العائلة: «النهم الشديد إلى التورط في الحماقات العارضة، والتوق للتنصل من أي ارتباط والقناعة بأن الأسرة قيد، والانتظام في تناول الوجبات قيد، وإلقاء التحية على الجار الخبيث قيد».

رغم هذا التوتّر، بقيت أم مروان حاضرة في حياة ابنها. فكانت إلى جانبه خلال مرضه بالسرطان، وقبلها كانت معه خلال سجنه، بل إنها حتى وبعد خروجه من السجن، كما يقول سعود قبيلات «كانت تطبخ طبخة كبيرة على الأقل في الشهر مرة، تكفيني أنا واللي معي في غرفتي، تعمل محاشي، تعمل مقلوبة، وتجيبلنا ع السجن»،[44] حتى صاروا يسمّونها أم الحزب.

توفي شقيق طمليه إسماعيل، الشخص الذي شاركه بعض تجاربه، والذي كان قريبًا منه جدًا، وقد كانت هذه الوفاة أول وفاة «حقيقية» في حياة الأسرة، على اعتبار أن العائلة لم تحضر وفاة الوالد، وإنما بُلغت بها تبليغًا. مخاطبًا هذا الشقيق المتوفى، كتب: «حذار من الاعتقاد أنك تركت فراغًا، أنت الفراغ كله». وفي العزاء، كان سلوك طمليه أقرب للانتحاب، إذ كان يحضر العزاء ولكن من بعيد، يأتي، وبيده زجاجة كحول، يبكي ويشرب إلى أن ينهار تمامًا، فيُحمل إلى بيته في ضاحية الرشيد، ومن ثم يعود، ليكرر السيناريو ذاته في اليوم التالي.[45]

أمّا عند وفاة أمّه فقد كان الوضع مختلفًا: كان محمد صلبًا، ومتماسكًا، وظل واقفًا يقوم على خدمة بيت العزاء، وكأنه كان يصلّي لها، بحسب تعبير شقيقه أحمد.




















الكتابة اليومية: من «الدستور» البداية

«وللدستور حكاية، فهي الثدي الذي أرضعني حليب المهنة أول مرة، وهي باحة البيت التي حبوت على ترابها في قرية أبو ترابة أول مرة»[46].

من عام 1986، سار عمل محمد طمليه العام في مسارين. الأول كان رابطة الكتاب الأردنيين التي انضم إليها عام 1981، كما يروي سكرتير الرابطة، محمد المشايخ. والتزام طمليه بالرابطة سيكون الالتزام الأكثر طولًا في حياته، إذ سيبقى عضوًا فيها حتى وفاته.

أمّا المسار الثاني، فكان الكتابة في الصحافة اليومية. نشر أول مقال كتبه محمد طمليه للصحافة اليومية في 17 كانون الأول 1986 في صحيفة «الدستور»، وكان عنوانه «سلاطين الممرّات»، ويتحدث عن سلطة الفرّاشين في الدوائر الحكومية.[47] بحسب جمال مساعدة كانت المقالات الأولى، لطمليه تناقش قضايا اجتماعية، ولم يكن الجانب الساخر فيها ظاهرًا بوضوح، ولكن الأمر سيتغيّر مع مرور الزمن، وستصبح الكتابة سياسية أكثر، وساخرة أكثر.

لم تكن العلاقة بين طمليه وإدارة «الدستور» سمنًا على عسل دومًا، فقد عُيّن في الجريدة أربع مرّات،[48] أي أنه كان يفصل أو يطرد من الجريدة بشكل دوري. فمرّات كان يفصل بسببه عدم الانتظام في الدوام، وأحيانًا أخرى كان يحرد من «الدستور» بسبب إعمال رئيس التحرير لمبضعه/قلمه في نصوص طمليه شطبًا وتحريرًا، وهو ما كان يغضب طمليه ويدفعه للدخول في شجارات لا تحمد عقباها.

هذه الشجارات، والسقوف التي لم يكن طمليه يرتضيها، دفعت طمليه وعددًا من أصدقائه لتأسيس صحيفة «الرصيف» الساخرة عام «الرصيف» وإن كان قد سبق واشتغل في جريدة سمّيت «الرصيف»، وصدرت عام 1991، وكانت تطبع على ورق أبيض لامع فاخر، صدر منها، بحسب جمال مساعدة، خمسة أو ستة أعداد، وكانت تطبع في المنطقة الحرة لغايات التحايل على القانون، ولم تلق هذه الصحيفة انتشارًا جيدًا.

أما «الرصيف» التي صدرت عام 1994، فهذه كانت الصحيفة التي مثلت لطمليه الكثير، بل هي مشروعه الشخصي ورفاقه، فقد كان مدير تحريرها، وشريكًا في ملكيتها. وعلى خلاف ما يتوقع من شخص مثله، فقد كان ملتزمًا بمشروع هذه الصحيفة جدًا، فوصل الليل بالنهار للعمل عليها، خاصة في «يوم الصبّة»،[49] وهو اليوم الذي تجهّز فيه الصحيفة الأسبوعية للنشر. يقول طمليه عمّا أراده من هذه الصحيفة: «أولًا وقبل كل شيء، لا مكان للابتذال والإسفاف في رصيفنا»[50]، يقول خالد مساعدة، الذي كان المدير العام للصحيفة، في العدد صفر 2: «لقد انتهجت الرصيف، وستنتهج دومًا خطًا سياسيًا لا تراجع فيه، (..) سنحافظ على استقلالنا، ولا نعني الحياد الساذج الذي يدعي الموضوعية الباردة في مواجهة سخونة الحياة».

خلال العمل في «الرصيف»، تم توقيع اتفاقية وادي عربة. وكانت الدولة حينها معنيّة بحشد أكبر عدد من الصحفيين من أجل حضور مراسم توقيع الاتقاقية، بحسب جمال مساعدة، «عملنا جلسة، هل عنا استعداد نشوف العلم «الإسرائيلي»؟ وشو رايحين نساوي؟ إحنا جريدة أسبوعية، ومش عارفين يمكن نصدر أو ما نصدرش. [بس بالآخر] حسمنا أمرنا إنه نروح، بدافع الفضول». لم يكن ينظر لمشاهدة التوقيع على أنها تطبيع، لذا، قبل الصحفيون الذهاب، وكما يقول خالد مساعدة، كان مبكيًا أن ترى هذا القدر من الانهيار.

وعلى ذكر التطبيع، أخذت «الرصيف» على عاتقها الوقوف في وجه معاهدة السلام ومشاريع التطبيع. يقول المحرر في العدد صفر من الرصيف: «جريدتنا الرصيف، تعارض العملية السلمية برمتها، السري منها والعلني، وبصرف النظر عن التسميات. من قال أننا نطمح في أن يصبح الأردن سنغافورة المنطقة، لا نريد، بل إننا نتمسك بأردننا على ما هو عليه، عربيًا حتى العظم، ومعاديًا للاستعمار حتى النخاع، وناصعًا من أقصاه إلى أقصاه».[51]

صدر من الرصيف 12 أو 13 عددًا فقط، توقفت بعدها عن الصدور بسبب افتقارها لمصادر التمويل. ليصدر طمليه بعدها، وبتمويل من شقيقه إسماعيل، جريدة «قف»، التي تبعت «الرصيف» في مناهضة التطبيع. أمّا لماذا «قف»، فقد كتب طمليه نصًّا هذا عنوانه، يقول فيه: «ربما لقناعتنا بأن الساحة ما تزال تفتقر رغم الزحام لجريدة لا تحترم نفسها، (..)، ولنا ثوابت بالطبع: الجرأة، والابتعاد عن الإسفاف والابتذال والإثارة، ثم عكس موقف الناس كما هو، لا كما يراد له أن يظهر».[52] وفي نص في العدد صفر 1 الذي نشر في 11 تشرين الأول 1995، يحكي النص الذي حمل عنوان «من المحرر» عن الشكل الذي يريد طمليه ورفاقه لـ«قف» أن تكون عليه: «نريدها تمامًا كما أردنا للرصيف، جريدة ساخرة، فأخفقنا هناك، ولا مجال للإخفاق هنا. نسعى للسخرية حيث لم يعد للجدية متسع في صدر الحكومات التي تحاصرنا كحصار الكلب في الجامع. ما الذي يمكن أن نقوله دون خرق قانون المطبوعات والنشر الذي فُصّل على مقاس التطبيع والحكم العرفي الذي لا يرى إلّا ما يراه».

ورغم صدور أكثر من عشرين عددًا من «قف»، إلّا أن الحال انتهى بها للتوقف عن الصدور أسوة بشقيقتها الكبرى.

عملُ طمليه على هذا المشروع الشخصي الطموح لا يعني توقفه عن العمل مع جهات أخرى في الوقت نفسه. فقد عمل عام 1987 وما حوله في صحيفة «صوت الشعب». وبعد «عودة» الحياة الديمقراطية في الأردن عام 1989، عمل على إصدار ما يشبه الجريدة الدعائية لعدد من المرشحين القريبين من حزب الشعب الديمقراطي (حشد).[53] كما عمل لاحقًا في صحيفة «البلاد» اليومية، وكتب في الأعداد الأولى لجريدة «عبد ربه»، وعمل محررًّا في جريدة «الأهالي»، وانطلاقًا من عام 1996، سيكتب مع جريدة «العرب اليوم» مقالًا يوميًا.




محمد طمليه في رابطة الكتاب

«كانت الرابطة مأواي أنا شخصيًا، أنا أعني ذلك تمامًا».[54]

ربما يكون من السليم القول أن علاقة طمليه برابطة الكتاب، هي العلاقة «التنظيمية»، الأطول في حياة طمليه.

ظل طمليه ابن الرابطة منذ انضمامه لها عام 1981، وابنها المدلل في كثير من الأحيان. يقول: «في السنة الأخيرة وقبل إغلاق الرابطة، وشمعها بالشمع الأحمر، في تلك السنة، سمح لي أعضاء الهيئة الإدارية، ولأسباب خاصة بي، بالمبيت في الرابطة».[55]

عمل طمليه حوالي عامي 1985 و1986 سكرتيرًا لرابطة الكتاب، ونوقشت فيها مجموعته القصصية «المتحمسون الأوغاد» عام 1985، وكان خلال هذه السنوات، يكاد يعيش في الرابطة. يكتب عنه محمد المشايخ: «هو الوحيد ربما من بين العاملين في الهيئات الثقافية العربية، الذي كان يبدأ دوامه في الرابطة عند الساعة الثالثة فجرًا، وحين كان يسأله شخص ما ذكرًا كان أو أنثى، عبر الهاتف، عن موعد ندوات الرابطة، يجيب الساعة الرابعة فجرًا، وبالنظر لأن د.هاشم ياغي [رئيس الرابطة حينها] كان منزله آنذاك قريبًا من مقر الرابطة، فقد كان يحضر في أي وقت بعد منتصف الليل، ليجد طمليه سهرانا وحده في قاعة الندوات».

أمّا أسباب هذا الانخراط الكبير من قبل طمليه، فأعتقد أنها تشمل أن الرابطة، على الأقل في ذلك الوقت، كانت أشبه بنادٍ للمثقفين، بحسب تعبير جمال مساعدة، وهو ما أشعر طمليه بالانتماء. هذا الانتماء تعزّز مع ابتعاد طمليه عن الحزب الشيوعي، وتقاربه أكثر مع الكاتب والسياسي سالم النحاس، أحد مؤسسي رابطة الكتّاب، والأمين العام لحزب الشعب الديمقراطي لاحقًا.

كما يمكن رد هذا الانخراط لكون البلاد حينها في حالة أحكام عرفية، وبالتالي كان العمل من خلال الرابطة متاحًا أكثر وآمنًا أكثر. لكن حتى هذه المساحة الديمقراطية سينال منها القمع، ففي 1987 أُغلقت الرابطة، وشُمّعت بالشمع الأحمر. يقول طمليه: «كان لي أغطية صادرتها الشرطة بعد صدور قرار حكومي عرفي بإغلاق الرابطة، وقد طالبت بهذه الأغطية فيما بعد ولكن الوزير أكد أنهم لم يعثروا عليها في المستودعات، وهكذا غدوت بلا مأوى ولا غطاء».[56]

عادت الرابطة للحياة مجددًا بعدها بعامين. يصف مشايخ هذا المشهد فيقول: «عند الساعة الثامنة من مساء يوم الجمعة الموافق لـ15-12-1989، بث التلفزيون الأردني في نشرة أخباره الرئيسة النبأ التالي: تماشيًا مع توجه الحكومة بإلغاء الأحكام العرفية وإزالة آثارها، فقد أصدر السيد رئيس الوزراء بصفته الحاكم العسكري العام أمرًا بإلغاء القرار الصادر بتاريخ 17-6-1987، المتضمن حل رابطة الكتاب الأردنيين، وإلغاء مركزها الرئيسي في عمان، وفروعها في المملكة، وتحويل أموالها للغير، كما قرر إعادة أموال الرابطة وموجوداتها إليها، ويسري مفعول هذا الأمر اعتبارًا من اليوم الجمعة 15-12-1989».

شاهد عيان

«إنها الخصخصة، والمزيد من الارتهان يا صاحبي».[57]

بين عامي 1997 و2004 تقريبًا، استمر محمد بالكتابة بشكل شبه يومي في صحيفة العرب اليوم. ومقارنة بما سيكتبه بعد عام 2004، أي بعد إصابته بالسرطان، كان ما كتبه في هذه السنوات أقل جودة، في رأيي. لكن هذه النصوص، مهمّة لإلقاء الضوء على المشهد العام في الأردن خلال هذه السنوات التي ستشهد بيع مؤسسات الدولة، والمضيّ العنيف في مشروع الخصخصة. وقد جُمعت مقالات تلك المرحلة في كتاب حمل عنوان الزاوية التي كان يكتب فيها طمليه منذ العام 1986 وهو «شاهد عيان».

يقول مثلًا: «اليوم هو الخميس، وأمامنا عطلة لمدة يومين، تعالوا نذهب إلى البحر للمرّة الأخيرة، قبل أن يمنحه [رئيس الوزراء] أبو الراغب لمستثمرين، ونغدو نحن غرباء عن البحر وعن المدينة، ويا خوفي أن نغدو غرباء عن الوطن ككل». وفي موضع آخر يتحدّث عن التغييرات التي شهدتها عمّان: «عشت فيها قبل أن تتفسخ إلى قسمين شرقي وغربي، وقبل أن تضع السواعد الرسمية حجر الأساس للساحة الهاشمية، وقبل أن يهدموا سينما البترا التي قضيت فيها ردحًا من اليفوع، وقبل ممدوح العبادي ومحمد البشير وعبد الرؤوف الروابدة وغيرهم من القتلة الذين جدلوا حبلًا من الأسفلت حول عنق الطفلة». وفي موضع آخر يتحدث عن زيارته لرئيس الوزراء عبد الرؤوف الروابدة: «زرت أبو عصام، ولم يكن معي قلم لكتابة ملاحظة معينة، فأعطاني عبد الرؤوف قلمًا، سألته فورًا هل هذا هو القلم الذي ضيعت به الناس؟ ضحك أبو عصام كثيرًا، وقال إنه هو».

وعلى ذكر رؤساء الوزراء، كان لطمليه علاقة لافتة بالمسؤولين السياسيين. فقد قابل الملك عام 2007 وأهداه نسخة من «إليها بطبيعة الحال»، ورعى العين وقتها، ورئيس الوزراء سابقًا، ورئيس الديوان الملكي لاحقًا، فيصل الفايز، أمسية إطلاق الكتاب إليها نفسه، بناء على طلب من طمليه ذاته، بحسب الفايز. وتكفّل الديوان الملكي بتكاليف علاجه وقت إصابته بالسرطان.

يرد جمال مساعدة هذه العلاقة إلى أمرين، سنوات عمل طمليه الطويلة في الصحافة، والسقف المرتفع الذي كان يميّز كتابته، وهو ما كانت فاتحة تواصل بينه وبين المسؤولين. والأمر الثاني هو إدارة طمليه لمساحة فنية وثقافية تدعى «غاليري الفينيق»، وقد شهدت تلك المساحة نقاشات سياسية عامة شارك فيها وحضرها مسؤولون في الحكومات المتعاقبة.

لكن مساعدة يضيف «محمد مهما كان وضعه بائس كان حريص إنه ما يتورط هالورطة»، أي ورطة أن يُحسب على أحد من المسؤولين.




















أنا والسرطان وهواك

«اللعنة علي، متطرف حتى في اختيار المرض».[58]

اكتشف طمليه إصابته السرطان صيف 2004، وتم تبليغه بالمرض، كما يقول من خلال «مسج» على هاتفه. وكان قبل ذلك قد أصيب بكمشة أمراض، استئصلت على إثرها المرارة والبنكرياس وغيرهما.

وثّق طمليه إصابته بسرطان في لسانه، ووضع قرّاءه في صورة ما يجري، عبر مجموعة من المقالات، نشر معظمها في صحيفة «العرب اليوم» التي كان يكتب فيها وقتها، ومن ثم نشرت، برفقة مقالات أخرى، في كتاب «إليها بطبيعة الحال» الذي نشر في حياته. وبعد سنوات من وفاته، جمّعت مقالات المرض، وغيرها، ونشرت في كتاب «على سرير الشفاه».

في أول مقال أشار فيه لاحتمالية إصابته بالسرطان، وكان المقال بعنوان «يحدث لي دون سائر الناس» يقول: «قرر الطبيب أخذ خزعة من لساني لفحصها مخبريًا، والوقوف على حقيقة ما يجري في فمي من تقرّحات. (..) النتيجة لم تظهر بعد، ولكني قلق: أخشى أن يكون الداعي ورمًا».

في المقال التالي لهذا المقال، يشارك القرّاء إصابته بالسرطان، من غير أن يستغرب الأمر تمامًا. ففي اعتقاده، أو على الأقل هكذا فهمت، أخذت حياته منذ كان طفلًا، مسارًا إنما يقوده أو يؤهله لأن يصاب بمرض عال مثلٍ السرطان. ألم يقل «حياة تشبه الكذب»؟ في هذا المقال، يسرد علينا لحظات متطرفة عرفها في حياته، كأن يموت والده يوم امتحان اللغة الإنجليزية التوجيهي، ويذهب للامتحان، بفعل ضغط من أحد الأقارب، من غير دراسة، فيحصل على العلامة الكاملة.

ومنذ المقالات الأولى للإصابة بالسرطان، كان واضحًا أن طمليه قد قرّر المواجهة. يقول أحمد طمليه، الذي عاصر تعامل محمد مع السرطان على مدى سنوات، أن شقيقه كان صلبًا في ذلك، وربما يدعم هذا الكلام تأكيد طمليه ذاته في أكثر من موضع على أن ما أصابه «شويّة سرطان»، وأن السرطان «أقل خطورة من تبسط القدمين»، والأهم «أننا سنهزمه». لكنه لم يقل لنا من نحن؟ هل كان يعني هو والقرّاء؟ أم هو ومحبوبته، التي كتب لها «أنا والسرطان وهواك، عايشين لبعضينا»؟

على العموم، القرار بمجابهة السرطان كان الخيار الذي يحث عليه طمليه دومًا. فقد سبق لمحمد أن بعث لصديقه الفنان التشكيلي محمود عيسى موسى، عندما أصابه السرطان، عام 2001 تقريبًا، قائلًا: «مش عارف شو أحكي يا محمود، طز، قاوم، اصمد، سأكتب عنك»؛[59] «سأكتب عنك» وكأن الكتابة عن السرطان كفيلة بمقاومته. وهذا ما فعله حرفيًا: كتب عن السرطان، كتب حتى وإبرة الجلوكوز في يده التي يكتب بها، وعندما ساءت الأوضاع، ملّى ما أراد كتابته على من كان يرافقه.

لكن السرطان ليس مرضًا تشفى منه أو يقتلك خلال أسبوع، بل هو مرض تعيش معه حتى ينتصر أحدكما. لذا، كان من الطبيعي أن نقرأ في تجربة توثيق طمليه للسرطان أشياء أخرى غير القرار بالمجابهة. فمع التقدّم في سنوات السرطان، فتح المرض ناظرَي طمليه على وضع مرضى السرطان في الأردن. «خمسة آلاف أردني يموتون كل سنة بهذا المرض، ومنهم من ينتظر، وظنّي أن الرقم المذكور غير دقيق: لماذا يتكتمون؟»، وعلى المستوى الشخصي، فتح السرطان على طمليه بابًا هائلًا من الأفكار والأسئلة والمشاعر.

أول ما فعله المرض بطمليه هو أنه ذكّره بأن الموت أقرب إليه مما يتخيل، هو الذي أتى الحياة وتعامل معها لا كمستأجر، وإنما كمالك قوشان.[60] وهذا التذكير بالموت أعاده لمشروع سنوات الجامعة، مشروع كتابة الرواية التي كان مقتنعًا أنها ستضعه «في الصف الأول عالميًا» بين كتاب الرواية، ولذا اعتبر السرطان «مجرّد سكرتير مجتهد قمت بتعيينه في جسدي لتذكيري كل صباح بمشروعي الأدبي».


طمليه في أيامه الأخيرة. من أرشيف صور العائلة.

كما شجّع المرض طمليه على طرح أسئلة ربما ما كانت لتطرح بهذا الوضوح والفجاجة لولاه؛ أسئلة مثل: من أنا؟ وما الذي فعلته في حياتي إلى الآن؟ وما الذي سأفعله لو نجوت؟

لا أسوق هذا السؤال لمدّه نحو ما الذي كان ليقوله لو عاش في أيامنا هذه، ولكن للتفكير في رأي طمليه ذاته في تجربته، وفي المسار الذي اتخذته حياته. فقد كتب عن هذا السؤال، لكن ما كتبه ربما يحمل تناقضًا ما.

الخيار الأول، والأقل ترجيحًا، على اعتبار أن الرجل لم يقل هذا الكلام إلّا في نص واحد، هو أنه لو نجا من المرض سيكون أكثر تعقّلًا، يقول: «معنوياتي عالية، وأنا مصمم على بدء حياة جديدة، حياة تخلو من الانطواء والانزواء والتمادي في إتلاف الروح والجسد. (..) لقد سئمت الصخب/الضجر وحدي في بيت لا يقرع بابه سوى أصدقاء سوء يأتون بهدف حفزي على التورط في متاهة جديدة».[61]

أما الخيار الثاني، فهو المواصلة، أو ما عبّر عنه طمليه بوضوح بالقول: «لست نادمًا على شيء ولو قُدر لي أن أعيش مرة أخرى لاخترت نفس الطريق بما في ذلك مرض السرطان. سأواظب على ارتكاب نفس الأخطاء، لن أعتذر، بل على العكس كان بودي أن أتمادى في خدش ما تسمونه الحياء العام، وأنا أسميه (الحياد العام)». وفي موضع آخر يقول، بعد أن وصف ما يحدث للمرء بعد الوصول لعمر الخمسين من ارتداء لسحنة الوقار: «فلأمت قبل أن أصبح محترمًا».

الأيّام الأخيرة

«أسوأ ما قمت به خلال 47 سنة هو إني كنت وحيد».[62]

في الأيام الأخيرة من حياة طمليه، زاد إحساسه بالتقصير إزاء عدد من الأشياء من بينها مشروعه الروائي، وعلاقته بعائلته، وعلاقاته النسائية. يقول شقيقه أحمد: «لو سألت محمد، قبل ما يموت بلحظة، وأنا سألته، بماذا تشعر لجاوب: بتأنيب الضمير». وقد سبق وقال محمد لساندرا ماضي في فيلمها عنه عن شعوره بالتقصير: «تقصير إزاء كل شي، إزاء عائلتي، إزاء نفسي؛ تقصير إزاء دوري في الدنيا».

في آب 2008، يقول أحمد إن أخاه قد جاءه إلى بيته؛ بيت العائلة في وادي الحدادة، ومن هيئته على الباب: «عرفت لحالي إنه محمد جاي يموت. طلب إنه ييجي يعيش عندي في وادي الحدادة، ولسان حاله كان بقول إنه محمد خايف. يريد أن يكون في الأسرة. رتبتله الأمور، وظل عندي من شهر آب إلى أن توفي».

«يخطر لي أن أجلس في بيت العزاء حتّى الصباح. أهنئ الناس جميعًا، مستقبِلًا ومودّعًا، وأقول: البقية في حياتي هذه المرّة».[63]

هذا النص مهدىً للشهيد باسل الأعرج.

التعليقات حالياً متوقفة من الموقع

البلقاء اليوم بالارقام

اسرار المدينة

شخصيات المحافظة

مقالات

موقف البلقاء اليوم

هموم وقضايا