الجمعة ,22 نوفمبر, 2024 م
الرئيسية أهم الأخبار الغرق في الديون .. إلى أين يتجه الاقتصاد الأردني؟

الغرق في الديون .. إلى أين يتجه الاقتصاد الأردني؟

651

البلقاء اليوم - البلقاء اليوم --السلط

كتب .. د. ناصر الزيادات
في متابعتي لتحليل المشهد الاقتصادي الأردني وجدت الكثير من الاقتصاديين يحاولون تفسير تلك الظاهرة من وجهة نظر اقتصادية بحتة لا تعترف إلا بالأرقام وتتجاهل حقيقة كبرى مفادها أن أصل علم الاقتصاد هو علم اجتماعي إنساني وليس علماً بحتاً كالرياضيات. وقد اطلعت على عديد التحليلات التي تقارن مؤشرات الأداء الاقتصادية ثم تتنبأ بما يمكن أن يكون عليه الوضع خلال خمس إلى عشر سنوات.

في هذه المقالة لن أنتهج منهج الأرقام لأجيب على السؤال الرئيس الذي أطرحه لأني أعتقد أن مثل تلك الإجابات تشبه تماماً ممارسة الطبيب الذي يشخص ارتفاع درجة حرارة المريض فيصف له خافض حرارة دون أن ينظر بعمق لمسببات ارتفاع الحرارة. والاقتصاد الأردني يعاني من الأعراض التي، مع الأسف، تشغل بال الناقدين والكتاب وعامة الشعب دون النظر إلى الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تلك الأعراض.

أصل العلة
هناك علم في الاقتصاد يسمى الاقتصاد السياسي الذي يعنى بالأيديولوجية السياسية التي يدار الاقتصاد وفقها. وهناك علم الاقتصاد الاجتماعي الذي يشخص الأمراض الاجتماعية الناجمة عن سياسة الدولة في إدارة الاقتصاد. وبرأيي أن الوصول إلى العلة سيكون جلياً إن تناولنا مشهد الاقتصاد الأردني من زاويتي الاقتصاد السياسي والاجتماعي وفق منهج تاريخي يربط الماضي بالحاضر.

تستند النيولبرالية بشكل مبسط إلى تحرير الاقتصاد من يد الدولة ونقله إلى وعي المتعاملين في السوق وفق ما يرونه جيداً للصالح العام دون تدخل الدولة في التعاملات الخاصة
أذكر أن الأردن بدأ بالتوجه نحو تحرير الاقتصاد منذ نهاية النصف الثاني من تسعينيات القرن المنصرم. وهذا المنهج يمكن تلخيصه بالتدرج في رفع يد الدولة عن ممتلكاتها “الخصخصة” مع تحرير القيود (deregulation) لغايات تحرير السوق. ومن الملاحظ هنا أن مفهوم الـ “تحرير” هو المحور الرئيس في المعتقد السياسي الذي ستتم عليه إدارة اقتصاد الدولة. بمعنى آخر، أن الأردن تبنى العقيدة الليبرالية الجديدة (neoliberalism) في إدارة اقتصاده. وعلى أن أنوه هنا أنني لن أحدد موقفي من تلك العقيدة ولكني سأركز في تحليلي على كيفية تطبيق تلك العقيدة وفق الأصول في أدبياتها، بمعنى أنني سأشخص أصل العلة من وجهة نظر نيوليبرالية بغض النظر عن رأيي العلمي بتلك العقيدة.

يوضح الاقتصادي هايكي محرر كتاب “أشكال الرأسمالية” (Varieties of Capitalism) الصادر سنة ٢٠٠٩ أن الرأسمالية النيوليبرالية هي الشكل الأبرز والأكثر سيطرة على الرأسمالية كنظام اقتصادي في مختلف دول العالم. وقد تنبأ هذا الاقتصادي آنذاك أن النيوليبرالية ستسود العالم في المستقبل الذي نعيشه الآن. لكني أستطيع أن أجزم أن ما تنبأ به ليس صحيحاً البتة لأن الرأسمالية في الدول الاسكندينافية، على سبيل المثال، ليست نيوليبرالية وكذلك الرأسمالية الأوروبية. فالنيوليبرالية معتقد أنجلوأمريكي تبناه الرئيس الأمريكي ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في ثمانينيات القرن المنصرم وقد حاولوا ولا يزالون يحاولون تعميمه على العالم. ويتبنى صندوق النقد الدولي تعميم النيوليبرالية على الدول المتعاملة معه.

تستند النيولبرالية بشكل مبسط إلى تحرير الاقتصاد من يد الدولة ونقله إلى وعي المتعاملين في السوق وفق ما يرونه جيداً للصالح العام (laissez-faire) دون تدخل الدولة في التعاملات الخاصة في السوق. ويرافق ذلك نقل مسؤولية الرفاه الاجتماعي من على عاتق الدولة إلى عاتق الأفراد الذين سيوفر لهم الاقتصاد فرصاً متساوية لتراكم الثروة كل وفق قدرته وطاقته دونما تحيز وبعدالة تامة كما سيوفر لهم سوق العمل ذات الفرص بحيث يحصل الشخص على ما يتناسب مع كفاءته. وحيث أن الدولة سترفع يدها من ممتلكاتها لصالح القطاع الخاص، فإن موارد الدولة ستختزل في موردين أساسيين: الضرائب والرسوم على الخدمات.

لو فككنا هذا الكلام لوصلنا إلى أصل العلة. فكون أن النيوليبرالية ستوفر فرصاً متساوية لأفراد المجتمع كل حسب قدرته، فقد تبنى الأردن تلك العقيدة قبل أن يطور قدرات الأفراد ووعي المجتمع بما يتناسب مع النيوليبرالية، وبالتالي تراكم عدم التكافؤ بالفرص عبر عقدين من الزمان تقريباً. فلما شرع الأردن بالخصخصة كانت الفرص المتكافئة محصورة بالقلة القليلة ممن لديهم قدرات مادية ومهنية وعلمية. وهذا أصل من أصول العلة الذي يفسر استفادة أصحاب رؤوس الأموال وخريجي الجامعات الأمريكية والأوروبية، وهم قلة في المجتمع، على معظم مزايا الخصخصة منذ بداياتها.

النتيجة أن هناك قلة قليلة أصبحت من الأثرياء جداً مقارنة بعامة الشعب ما أدى إلى اختلالات في الطبقات الاجتماعية وسيطرة تلك الطغمة على السوق فتجد دائماً الكفة تميل لصالحهم والعطاءات توكل لهم ومنهم النواب والوزراء إلا من رحم ربي. بمعنى آخر، أصبحت القلة التي استفادت من تحرير الاقتصاد الأردني في بدايات التحرير هي من يتحكم بالاقتصاد الآن مع عجز الدولة على تأمين الموارد اللازمة من عامة الشعب الذين كان من المفترض أن يكونوا المورد الأكبر لخزينتها لو تم تأهيلهم بشكل صحيح قبل الشروع بتحرير الاقتصاد. ومع رفع يد الدولة عما تبقى من رفاه (ومثال ذلك رفع الدعم عن السلع الأساسية) صار المواطن العادي عاجزاً عن العيش كما كان عليه قبل تحرير الاقتصاد.

أدى غياب تأهيل عامة الشعب إلى ضعف في القطاع الخاص لاسيما المنشآت الصغيرة والمتوسطة والتي تعتبر ضرائبها بمثابة المورد الرئيس لخزينة الدولة
لماذا ازدادت المديونية عبر عقدين من الزمن؟
هناك قاعدة متعارف عليها في علم الاقتصاد تفيد بتحليل العلاقات بين المتغيرات مع ثبات بعض الظروف أو بعض المتغيرات. وهذا يعني أنني سأجيب على هذا السؤال مع تحييد مسألة نضوب الدعم الخارجي وملفات الفساد ليس لأنني لا أريد الحديث عنها بل لأني لا أملك الأدلة التي تمكنني من طرح الفساد كأحد عوامل تراكم المديونية. وعليه، سأجيب على السؤال بالاتساق مع ما طرحته سابقاً: من أصول العلة الشروع في الخصخصة قبل عقدين دون تأهيل عامة الشعب فحصل الظلم في توزيع الثروة الناتجة، والقوة السياسية والاجتماعية المترتبة عليها.

أدى غياب تأهيل عامة الشعب إلى ضعف في القطاع الخاص لاسيما المنشآت الصغيرة والمتوسطة والتي تعتبر ضرائبها بمثابة المورد الرئيس لخزينة الدولة من جهة، ومن جهة أخرى كانت ستسهم في تخفيف عبء التوظيف عن كاهل الدولة، ما يعني أن شروع الدولة بالخصخصة التدريجية لم يرافقه تحمل تدريجي للقطاع الخاص لعبء الحد من البطالة بل رافقه ازدياد مطرد في استمرار الدولة كملجأ رئيس لفرص العمل في ظل زيادات غير طبيعية في معدل نمو السكان. بمعني آخر أن موارد الدولة نضبت بسبب التسرع غير المدروس في تطبيق النيوليبرالية في الوقت الذي كانت ترتفع فيه نفقات الدولة على موظفيها. ومع تحييد عامل الفساد، يمكنني القول أن ما كانت تقترضه الدولة خلال العقدين الماضيين كانت تستخدم جله في تغطية نفقاتها الجارية وتوجه القليل منه نحو مشاريع التنمية التي تحقق استدامة الموارد للاقتصاد.

هل كان التوجه نحو الليبرالية منقوصاً؟
الليبرالية نظام سياسي واجتماعي واقتصادي متكامل لا يمكن أن يقف إن كانت أركانه غير متكاملة. والشفافية من أهم أركانه. ويعتر غياب المساواة من الأركان الناقصة التي أدت إلى تزايد شبهات الفساد التي نتجت عن الشروع في الخصخصة دون تأهيل عامة الشعب للحصول على فرص متكافئة.

هذا بالإضافة إلى غياب الحرية الفردية، وحرية التعبير، وعدم تأهيل مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وتقوية العشيرة على حساب الدولة، وغياب سيادة القانون، ووجود قانون انتخاب ضعيف أدى إلى صعود نواب وسياسيين غير أكفاء أثرتهم عملية الخصخصة غير العادلة. بكل عقلانية، لا يوجد حلول بإمكانها أن تنهي الوضع الراهن خلال سنة أو سنتين أو ربما ثلاثة. وما أعرضه هنا يمكن أن يؤتي أولى ثماره خلال خمس سنوات كحد أدنى.

مسارات نحو الحل
هناك طريقان للخروج من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في الأردن في الوقت الحالي وإلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا. أولهما العودة إلى سابق عهد الأردن، وهذا أمر صعب للغاية وفق القانون الدولي ووفق ما سيترتب عليه من التزامات تتحملها الدولة نتيجة لاستعادتها ممتلكاتها التي باعتها بملء إرادتها مع العودة إلى نظام الرفاه والذي يكاد يكون مستحيلاً في ظل المتغيرات الجيوسياسية التي تشهدها المنطقة.

أما الطريق الثاني فهو المضي قدماً بالليبرالية السياسية والاقتصادية مع تطبيقها دون الانتقاص من أركانها. هذا يعني إطلاق خطط استراتيجية توجه الطاقات الشبابية نحو ريادة الأعمال، وإطلاق الحريات، وتشجيع الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وتأهيلها بعيداً عن الدولة، وسيادة القانون، والشفافية والمساواة ومحاسبة الفاسدين. والأهم من ذلك إصلاح نظام التعليم ليشمل كل ما سلف من أجل خلق أجيال مستقبلية قادرة على استيعاب متطلبات الليبرالية بعيداً عن المتطرفين الليبراليين ومن يعارضهم من متطرفي الطرف الآخر. ربما يقول البعض أن هذه أحلام، ولكن أود أن أقول أن حال سنغافورة واليابان وألمانيا كان أسوأ من حالنا بكثير لكنهم نهضوا بنهضة التعليم وتطبيق مفاهيم التعايش بعيداً عن كل ما يقوض دولة القانون والمؤسسات.

الجزيرة

التعليقات حالياً متوقفة من الموقع

البلقاء اليوم بالارقام

اسرار المدينة

شخصيات المحافظة

مقالات

هموم وقضايا